لا يمكن النظر إلى زيارة الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالى السودانى إلى مصر ، واستقباله من قبل الرئيس عبدالفتاح السيسى على أنها زيارة بروتوكولية فى إطار العلاقات الأخوية والتاريخية التى تربط البلدين.
فالزيارة تأتى فى توقيت بالغ الحساسية ، حيث ازداد المشهد السودانى تعقيدا ، ومخرجات تلك الزيارة أكدت أن القاهرة وهى تراقب تطورات ذلك المشهد باعتباره امتدادا مباشرا لأمنها القومي، تؤكد عبر هذا اللقاء موقفها الاستراتيجى الراسخ بأن استقرار السودان ليس خيارا سياسيا، بل ضرورة وجودية تتجاوز حدود الدولتين إلى استقرار الإقليم بأكمله، وتفرض نفسها على أي تصور جاد لتسوية الأزمة السودانية، وفى الوقت نفسه تكشر عن أنيابها ضد الميليشيات الإرهابية المتمثلة فى مرتزقة قوات الدعم السريع، التى تستهدف تفتيت السودان وتقسيم أراضيه ، وتؤكد القاهرة إنحيازها التام للجيش الوطنى السودانى، ووقوفها إلى جوار المؤسسات الوطنية السودانية للحفاظ على استقرار السودان ومقدراته.
وكشف البيان الصادر عن مؤسسة الرئاسة أن نهج القاهرة تجاه التهديدات المتصاعدة للأمن القومي السوداني دخل مرحلة أكثر صرامة وحسما، لتتجاوز منطق التحذير السياسي إلى وضع خطوط حمراء لا تحتمل التأويل أو التجاهل.
فقد أكد البيان أن الحفاظ على وحدة الدولة السودانية وسلامة أراضيها ليس مجرد موقف داعم، بل التزام استراتيجي لا يسمح بأي محاولات للعبث بمقدرات السودان أو فرض وقائع تقسيمية على الأرض، بما في ذلك أي سيناريوهات تستهدف فصل جزء من أراضيه أو تقويض سيادته ، وذلك في ظل تعدد الأطراف المسلحة وتصاعد الدعوات لتجزئة الأرض أو فرض كيانات سياسية موازية.
وشددت القاهرة على رفضها القاطع لأي كيانات موازية أو محاولات لإضفاء شرعية سياسية أو قانونية عليها، بل ذهب البيان لما هو أبعد من ذلك، حينما أكد حق مصر الكامل في اتخاذ جميع التدابير والإجراءات التي يتيحها القانون الدولي، واتفاقية الدفاع المشترك الموقعة بين البلدين، بما يضمن عدم تجاوز هذه الخطوط الحمراء، وهو ما يعكس استعدادا مصريا للتعامل مع أي تهديد محتمل باعتباره مساسا مباشرا بأمنها القومي، والتلويح هنا إلى تلك الاتفاقية موقف واضح وصريح، واستخدام هذه اللهجة المباشرة والخشنة، يلوح بإمكانية تدخلها وفق القانون الدولي في أحداث السودان .
كما أن حرص الرئيس السيسى على استقبال الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، لم يؤكد فقط حجم الاهتمام الذي توليه القاهرة لتطورات الأزمة السودانية، بل أكد فى الوقت ذاته دور مصر المحوري كفاعل إقليمي يسعى إلى صون الاستقرار وحماية أمن جواره الاستراتيجي، لاسيما وأن هذه الزيارة تأتى عقب زيارة البرهان للسعودية والتى اطلع فيها على نتائج زيارة ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة الأمريكية وموقف الرئيس ترامب من الأوضاع فى السودان.
كما أن تصريحات الرئيس السيسي جاءت حاسمة في ترسيم خطوط حمراء لا تحتمل التأويل، وتغلق الباب أمام أي سيناريوهات من شأنها تهديد استقرار السودان أو إطالة أمد الصراع، في وقت تتحرك فيه القاهرة بمنطق الدولة المسئولة التي لا تكتفي بإدارة الأزمات، بل تسعى إلى صناعة الاستقرار، انطلاقا من قناعتها الراسخة بأن استقرار السودان هو ركيزة أساسية لاستقرار الإقليم بأكمله.
كما ان رفض القاهرة الاعتراف بأي قوى خارج إطار الدولة السودانية يكشف إدراكا راسخا بأن إضعاف مؤسسات الدولة أو الدفع نحو تقسيم السودان لا يعني سوى فتح أبواب فوضى إقليمية يصعب احتواؤها أو السيطرة على تداعياتها، فى الوقت الذى ترى فيه القاهرة أن المساس ببنية الدولة السودانية يمثل تهديدا مباشرا للاستقرار في محيط إقليمي شديد الهشاشة.
وفى الوقت نفسه يعكس قناعة واضحة بأن انهيار هذه المؤسسات سيدفع البلاد إلى مسار تفكيك شامل، قد ينتهي بحرب أهلية طويلة الأمد تتجاوز آثارها الحدود السودانية، ومن هذا المنطلق، أكدت القاهرة أن وجود دولة مركزية قوية في الخرطوم ليس خيارا سياسيا، بل شرطا أساسيا لضمان الاستقرار الإقليمي، وهو ما يفسر تحديدها لتلك الخطوط الحمراء .
في النهاية، لا تنطلق الرؤية المصرية تجاه السودان من اعتبارات ظرفية أو حسابات سياسية آنية، بل من علاقة تاريخية عميقة رسخت قناعة ثابتة بأن أمن السودان هو امتداد طبيعي للأمن القومي المصري ، وحدود الجنوب لم تكن يوما مجرد خطوط جغرافية، بل عمقا استراتيجيا يرتبط بمياه النيل، والأمن الغذائي، وتوازن وادي النيل بأكمله.
ومنذ اندلاع الأزمة السودانية، أثبتت القاهرة أنها الأكثر حرصا على وحدة الدولة السودانية وسلامة مؤسساتها، عبر تحركات دبلوماسية ومبادرات سياسية أكدت أن الحل يجب أن يكون سودانيا–سودانيا، بعيدا عن أي تدخلات خارجية.
ويظل الموقف المصري، في ظل قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ثابتا لا يتغير فى دعم تطلعات الشعب السوداني، والدفاع عن وحدة أراضيه ومؤسساته، وصون مقدراته الوطنية، باعتبار أن استقرار السودان ليس فقط مصلحة مشتركة، بل ركيزة لا غنى عنها لأمن مصر واستقرار الإقليم بأسره.